الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان المستبصر قد لا يهتدي لمانع قال: {وهدى} أي للعامل بها إلى كل خير.ولما كان المهتدي ربما حمل على من توصل إلى غرضه، وكان ضارًا، قال: {ورحمة} أي نعمة هنية شريفة، لأنها قائدة إليها.ولما ذكر حالها، ذكر حالهم بعد إنزالها فقال: {لعلهم يتذكرون} أي ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، وهذا إشارة إلى أنه ليس في الشرائع ما يخرج عن العقل بل متى تأمله الإنسان تذكر به من عقله ما يرشد إلى مثله.ولما بين سبحانه في هذه السورة من غرائب أمر موسى عليه الصلاة والسلام وخفي أحواله ما بين، وكانت هذه الأخبار لا يقدر أهل الكتاب على إنكارها، نوعًا من الإنكار، وكان من المشهور أي اشتهار، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفها ولا سواها من غير الواحد القهار، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله حالًا من ضمير {آتينا} {وما كنت بجانب الغربي} أي الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرفة من ناحية مصر، فناداه منه العزيز الجبار، وهو ذو طوى {إذ} أي حين {قضينا} بكلامنا بما حوى من الجلال، وزاد العظمة في رفيع درجاته بالإشارة بحرف الغاية فقال: {إلى موسى الأمر} أي أمر إرساله إلى فرعون وقومه، وما نريد أن نفعل من ذلك في أوله وأثنائه وآخره مجملًا، فكان كل ما أخبرنا به مطابقًا تفصيله لإجماله، فأنت بحيث تسمع ذلك الذي قضيناه إليه من الجانب الذي أنت فيه {وما كنت} أي بوجه من الوجوه {من الشاهدين} لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى في ذلك المكان في أوقاته مع من شهده منه من أهل ذلك العصر من السبعين الذين اختارهم أو غيرهم ممن تبعه أو صد عنه حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أن أمر معرفتك كذلك منحصر في شهودك إياه في وقته أو تعلمك له من الخالق، أو من الخلائق الذين شاهدوه، أو أخبرهم به من شاهده، وانتفاء تعلمه من أحد من الخلائق في الشهرة بمنزلة انتفاء شهوده له في وقته، فلم يبق إلا تلقيه له من الخالق، وهو الحق الذي لا شبهة فيه عند منصف.ولما كان التقدير: وما كنت من أهل ذلك الزمان الحاضرين لذلك الأمر، وامتد عمرك إلى هذا الزمان حتى أخبرت بما كنت حاضره، استدرك ضد ذلك فقال: {ولكنا} أي بما لنا من العظمة {أنشأنا} أي بعد ما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة والإخبار، كلهم {قرونًا} أي ما أخرنا أحدًا من أهل ذلك الزمان، ولكنا أهلكناهم وأنشأنا بعدهم أجيالًا كثيرة {فتطاول} بمروره وعلوه {عليهم العمر} جدًا بتدريج من الزمان شيئًا فشيئًا فنسيت تلك الأخبار، وحرفت ما بقي منها الرهبان والأحبار، ولاسيما في زمان الفترة، فوجب في حكمتنا إرسالك فأرسلناك لتقوم المحجة، وتقوم بك الحجة، فعلم أن إخبارك بهذا والحال أنك لم تشاهده ولا تعلمته من مخلوق إنما هو عنا وبوحينا.ولما نفى العلم بذلك بطريق الشهود، نفى سبب العلم بذلك فقال: {وما كنت ثاويًا} أي مقيمًا إقامة طويلة مع الملازمة بمدين {في أهل مدين} أي قوم شعيب عليه السلام {تتلوا} أي تقرأ على سبيل القص للآثار والأخبار الحق {عليهم آياتنا} العظيمة، لتكون ممن يهتم بأمور الوحي وتتعرف دقيق أخباره، فيكون خبرهم وخبر موسى عليه الصلاة والسلام معهم وخبره بعد فراقه لهم من شأنك، لتوفر داعيتك حينئذ على تعرفه {ولكنا كنا} أي كونًا أزليًا أبديًا نسبته إلى جميع الأزمنة بما لنا من العظمة، على حد سواء {مرسلين} أي لنا صفة القدرة على الإرسال، فأرسلنا إلى كل نبي في وقته ثم أرسلنا إليك في هذا الزمان بأخبارهم وأخبار غيرهم لتنشرها في الناس، واضحة البيان سالمة من الإلباس، لأنا شاهدين لذلك كله، لم يغب عنا شيء منه ولا كان إلا بأمرنا.ولما نفى السبب المبدئي للعلم بذلك الإجمال ثم الفائي للعلم بتفصيل تلك الوقائع والأعمال، نفى السبب الفائي للعم بالأحكام ونصب الشريعة بما فيها من القصص والمواعظ والحلال والحرام والآصار والأغلال بقوله: {وما كنت بجانب الطور إذ} أي حين {نادينا} أي أوقعنا النداء لموسى عليه الصلاة والسلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله، لأنك ما خالطت أحدًا ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه الصلاة والسلام، ولا أحد أحملها عمن حملها عنه، ولكن ذلك كان إليك منا، وهو معنى قوله: {ولكن} أي أنزلنا ما أردنا منه ومن غيره عليك وأوحيناه إليك وأرسلناك به إلى الخلائق {رحمة من ربك} لك خصوصًا وللخلق عمومًا {لتنذر} أي تحذر تحذيرًا كبيرًا {قومًا} أي أهل قوة ونجدة، ليس لهم عائق من أعمال الخير العظيمة، لا الإعراض عنك، وهم العرب، ومن في ذلك الزمان من الخلق {ما آتاهم} وعم المنفي بزيادة الجار في قوله: {من نذير} أي منهم، وهم مقصودون بإرساله إليهم وإلا فقد أتتهم رسل موسى عليه السلام، ثم رسل عيسى عليه الصلاة والسلام، وإن صح أمر خالد بن سنان العبسي فيكون نبيًا غير رسول، أو يكون رسولًا إلى قومه بني عبس خاصة، فدعاؤه لغيرهم إن وقع فمن باب الأمر بالمعروف عمومًا، لا الإرسال خصوصًا، فيكون التقدير: نذير منهم عمومًا، وزيادة الجار في قوله: {من قبلك} تدل على الزمن القريب، وهو زمن الفترة، وأما ما قبل ذلك فقد كانوا فيه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى غيره عمرو بن لحي فقد أنذرهم في تلك الأزمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم إسماعيل عليه الصلاة والسلام ثم من بعدهم من صالحي ذريتهم إلى زمان عمرو بن لحي، فهم لأجل عدم النذير عمي، عن الهدي، سالكون سبيل الردى، وقال: {لعلهم يتذكرون} لمثل ما تقدم من أنهم إذا قبلوا ما جئت به وتدبروه أذكرهم إذكارًا ظاهرًا- بما أشار إليه الإظهار- ما في عقولهم من شواهده وإن كانت لا تستقل بدونه والله الموفق.ولما كان انتفاء إنذارهم قبله عليه الصلاة والسلام نافيًا للحجة في عذابهم بما أوجبه الله- وله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل- على نفسه الشريفة، فضلًا منه ورحمة، ذكر أن إرساله مما لابد منه لذلك فقال: {ولولا} أي ولولا هذا الذي ذكرناه ما أرسلناك لتنذرهم، ولكنه حذف هذا الجواب إجلالًا له صلى الله عليه وسلم عن المواجهة به، وذلك الذي ختم الإرسال هو {أن تصيبهم} أي في وقت من الأوقات {مصيبة} أي عظيمة {بما قدمت أيديهم} أي من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنه {فيقولوا ربنا} أي أيها المحسن إلينا {لولا} أي هل لا ولم لا {أرسلت إلينا} أي على وجه التشريف لنا، لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به {رسولًا} وأجاب التخصيص الذي شبهوه بالأمر لكون كل منهما باعثًا على الفعل بقوله: {فنتبع} أي فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع {آياتك ونكون} أي كونًا هو في غاية الرسوخ {من المؤمنين} أي المصدين بك في كل ما أتى به عنك رسولك صلى الله عليه وسلم تصديقًا بليغًا، فإذا قالوا ذلك على تقدير عدم الإرسال قامت لهم حجة في مجاري عاداتكم وإن كانت لنا الحجة البالغة. اهـ.
|